الصفحة الرئيسية

خرافات علم النفس الشعبي(2) : البعض يستخدم النصف الأيمن للمخ و البعض الآخر يستخدم الجانب الأيسر

في المرة القادمة التي يوقفك فيها أحد الأشخاص ليعرض عليك أن تشتري كتابًا أو أداة لإعادة تدريب الجانب الأيمن من المخ الذي تقول المزاعم إنه خامل، تحسس حافظة نقودك، ثم أطبق عليها جيدًا واركض بأسرع ما يمكنك.
مثلها مثل بقية الخرافات التي نعرضها في هذا القسم، تشتمل هذه الخرافة على جزء صغير من الحقيقة، ولكن قد يصعب أن نضع أيدينا على هذا الجزء الصغير وسط أكوام المعلومات المغلوطة التي تغطيه.

هل يستخدم بعض الناس جانب المخ الأيسر أكثر، ويستخدم البعض الآخر الجانب الأيمن أكثر؟

توجد أسانيد قوية تدل على اختلاف وظائف جانبي المخ المعروفين بالنصفين الكرويين (سبرينجر ودويتش، ١٩٩٧ )، فعلى سبيل المثال:
هناك قدرات مختلفة تتأثر أكثر عند حدوث إصابات لأحد جانبي المخ دون الآخر، وقد برهنت تقنيات تصوير المخ على أن نشاط نصفي الكرة المخية يختلف عند قيام الأفراد بالمهام العقلية المختلفة. تأتي أكثر الأسانيد المدللة على "التجانب الوظيفي " إثارة من المرضى الذين خضعوا لعمليات "شق المخ" والتجانب الوظيفي يعني تفوق أحد نصفي كرة المخ على الآخر في أداء مهام محددة. 

خلال هذه العملية التي نادرًا ما تُجرى يقطع الجراحون مسارات الحزم العصبية التي تصل ما بين النقاط المتقابلة في نصفي الكرة المخية الأيمن والأيسر في محاولة أخيرة للسيطرة على حالات الصرع الحادة. يعرف المسار الكبير الذي يربط ما بين نصفي الكرة المخية، وهو الهدف المنشود من هذه العملية الجراحية، بالجسم الثفني (أي الجسم الضخم)  .

في عام ١٩٨١ حصل روجر سبيري على جائزة نوبل بالمشاركة تقديرًا لدراساته المؤثرة التي أجراها على المرضى الذين خضعوا لعمليات شق المخ، وكانت مجموعة مدهشة بحق (جازانيجا، ١٩٩٨ ).
 فور إفاقتهم من الجراحة عاد هؤلاء المرضى إلى ممارسة أنشطتهم اليومية بطريقة طبيعية، ولكن ذلك المظهر كان خادعًا، ففور
قيام سبيري باختبار ردود أفعال هؤلاء المرضى في المعمل اتضح له أن كل نصف من نصفي المخ لديهم يعمل مستقلاً عن الآخر، فكل نصف يعمل دون أن يعي أو يعرف بوجود النصف الآخر .

تضمنت الاختبارات المعملية التي أجراها سبيري عرض صور و كلمات لفترة وجيزة على شاشة ثبت المرضى أعينهم على مركزها. ومع عدم تحريك العينين تُستقبل المعلومات التي تُعرض يسار النقطة التي يثبت عليها المرضى أعينهم بواسطة نصف
المخ الأيمن، والعكس صحيح فيما يتعلق بالمعلومات التي تُعرض على الجانب الأيمن من النقطة التي ثُبتت عليها الأعين (وذلك لأن المسارات البصرية الواقعة على كل جانب من جانبي مجال الرؤية تعبر إلى الجانب الآخر ). 

في المواقف الأكثر اعتيادية لا يحدث هذا الفصل ما بين المعلومات، لأن المرضى يحركون أعينهم باستمرار في أنحاء المجال المحيط بهم. ومن ثم تصل الصور المرئية بطريقة طبيعية إلى نصفي الكرة المخية في النهاية. ولكن عند عدم حدوث ذلك الأمر، يمكن أن تقع بعض الأشياء التي تكون غريبة حقٍّا.

يتلقى نصف المخ الأيمن المعلومات من الجانب الأيسر من الجسم ويتحكم به، ويتعامل النصف الأيسر بالطريقة نفسها مع الجانب الأيمن من الجسم. وتقع المراكز الرئيسية لاستقبال اللغة وإخراجها لدى كل من يستخدمون اليد اليمنى في الكتابة تقريبًا ولدى معظم من يستخدمون اليد اليسرى في نصف المخ الأيسر. 
إذن، إذا قصرنا استقبال المعلومات الجديدة على نصف المخ الأيمن فلن يتمكن النصف الأيسر — المعني أكثر بالمهام اللفظية — من إخبارنا عن ماهية هذه المعلومات،وقد يتعرض لحالة من الارتباك عند رؤيته لليد اليسرى وهي تتعامل مع المعلومات المنفصلة، لأسباب لا يستطيع أن يفهمها جيدًا.

على سبيل المثال: إذا عرض الباحث صورة لرجل عارٍ على النصف الأيمن لمخ مريضة خضعت لعملية شق المخ، قد تضحك هذه المريضة. ولكن إذا سئلت عن السبب الذي دفعها لأن تضحك فلن تتمكن المريضة (أو بالأحرى لن يتمكن نصف مخها الأيسر) من الإجابة. ولكنها قد تختلق سببًا يبدو وجيهًا (مثل أن هذه الصورة تذكرها بعمها جورج الذي هو شخص خفيف الظل للغاية) .

 قد يقوم مرضى عمليات شق المخ بعمل ما باستخدام أياديهم اليمنى — كأن يجمعون مثلًا بعض قطع المكعبات لتكوين شكل منها — غير مدركين على الإطلاق أن أياديهم اليسرى تتخلف بضع ثوانٍ عن أياديهم اليمنى وتقوم بفك كل هذا العمل الجيد. كل هذه الأشياء صارت مؤكدة تمامًا، ولكن الخلاف يتعلق بتفرد أنواع المهام التي يؤديها نصفا الكرة المخية وكيف يؤديان هذه المهام. في السنوات الأخيرة أصبح الباحثون في دراسة المخ أكثر حذرًا عند تناول هذا الموضوع، في حين جمح الخيال بكثيرين من أخصائيي علم النفس الشعبي.
باستخدام تقنيات روجر سبيري أكد الباحثون على تفاوت درجة الجودة النسبية التي يؤدي بها نصفا الكرة المخية الأيمن والأيسر الأنشطة العقلية المختلفة. ونريد أن نؤكد هنا على كونها أفضل "نسبياً" حيث يكمن الاختلاف ما بين نصفي المخ  في كيفية معالجة المهام، وليس في ماهية المهام التي يؤديانها (ماكرون، ١٩٩٩) .
لنأخذ اللغة مثالًا على ذلك. يتعامل نصف المخ الأيسر مع التفاصيل الدقيقة للحديث، مثل القواعد النحوية وتوليد الكلمات، بصورة أفضل، ويُظهر نصف المخ الأيمن أداءً أفضل فيما يخص تغير طبقة الصوت والتشديد على مقاطع الكلمات أثناء الحديث (وهو ما يعرف بالنبر والتنغيم.) ومع أن النصف الكروي الأيمن يؤدي الوظائف غير اللغوية التي تتضمن العمليات البصرية والمكانية المعقدة بكفاءة أكبر، فإن النصف الأيسر يقوم بدور ما في تأدية هذه الوظائف إذا منحناه الفرصة.

 يتعامل النصف الأيمن من المخ مع الإحساس العام بالفضاء المحيط بطريقة أفضل، في حين تنشط المناطق المقابلة في النصف الأيسر عندما يتعرف الشخص على مواقع الأشياء في أماكن محددة. وفي حالات كثيرة، لا يكون الوضع أن أحد النصفيين الكرويين
لا يستطيع أن يؤدي مهمة محددة، ولكن كل ما في الأمر أن أحدهما يستطيع أن يؤديها أسرع وبكفاءة أكبر من الآخر، ولذا يقتنص هذا النصف تلك المهمة أولًا.

بالطبع لا يشبه الأفراد العاديون — كما يلمح أنصار الفكرة القائلة إن المخ إما يعمل بنصفه الأيمن أو الأيسر — مرضى عمليات شق المخ الذين خضعوا لعمليات قص لأجسامهم الثفنية، فعندما يعمل المخ بطريقة طبيعية سيطلب الجانب الذي ينطلق أولًا لتنفيذ إحدى المهام المساعدة من الجانب المقابل. وما دامت المسارات العصبية التي تربط بين نصفي المخ الأيسر والأيمن سليمة فسوف تنتقل المعلومات بينهما بكثافة. وتُظهر نتائج الأبحاث المعتمدة على تقنيات تصوير المخ أن النصفين الأيمن والأيسر يتواصلان بانتظام خلال تأدية معظم المهام (ميرسير، ٢٠١٠) .
ويستحيل حدوث هذا النوع من التعاون بعد إجراء جراحة شق المخ، ولذا يسير كل نصف من المخ على حدة باذلًا أفضل ما لديه.

إذن، أوجه الاختلاف بين جانبي المخ أقل بكثير مما يشير إليه متعهدو مفهوم « سيطرة أحد النصفين » الذي يندرج ضمن مفاهيم علم النفس الشعبي (أموت  ووانج، ٢٠٠٨ ؛ كورباليس، ٢٠٠٧ ،١٩٩٩ ؛ ديلا سالا، ١٩٩٩ ). فإذا أخذنا كل الحقائق بعين الاعتبار فسنجد أن أوجه التشابه بين وظائف نصفي المخ أكثر من أوجه الاختلاف (جيك، ٢٠٠٨ ).

 لم يتفق أبدًا المتخصصون في علم الأعصاب الحديث مع  « مدربي تنشيط نصف المخ » من أتباع حركة العصر الجديد الذين يزعمون أن داخل كل نصف من نصفي المخ عقلًا يختلف تمامًا عن ذلك الموجود في النصف الآخر ويتعامل مع العالم بطرق مختلفة كليٍّا، فأحدهما (ذلك الموجود في الجانب الأيسر) حسابي، والآخر تأملي. كان روبرت أورنستاين واحدًا من هؤلاء الذين روجوا
  لفكرة استخدام طرق مختلفة لاستغلال الجانب الإبداعي الأيمن من المخ في مقابل الجانب الأيسر المتصف بكونه « عقلانيٍّا » 
حيث تناول هذا الموضوع في كتابه المنشور عام ١٩٩٧ بعنوان : « العقل الأيمن: فهم نصفي المخ »  .
بالإضافة إلى ذلك، تؤكد النقاط التي أحرزها المشاركون في البرامج التعليمية وبرامج الأعمال على أنهم لم ليتوصلوا إلى الإجابات "الصحيحة" لأسئلة الاختبارات التي تهدف إلى تنشيط القدرات الإبداعية .
وهدفت هذه البرامج من أمثال "ورشة عمل التفكير الإبداعي التطبيقي " إلى تدريب مديري الأعمال على تنمية قدرات نصف المخ الأيمن غير المستغلة (هيرمان،1996) وفي كتاب "الرسم على الجانب الأيمن من المخ" (إدواردز، ١٩٨٠ ) الذي حقق نجاحًا ساحقًا وباع أكثر من ٢٫٥ مليون نسخة، تشجع المؤلفة بيتي إدواردز قراءها على أن يطلقوا العنان لقدراتهم الفنية عن طريق قمع النصف "التحليلي" الأيسر من أدمغتهم.

 حتى رسامو الكاريكاتير انضموا لهذه المسيرة؛ فقد أظهر رسم كاريكاتيري صورة طالب يحمل ورقة امتحان كتب عليها بخط كبير "راسب" و يقول لأستاذه : "ليس من العدل أن تجعلني أرسب في الامتحان لأنني أفكر بنصف مخي الأيمن "  .

لماذا يروج أخصائيو علم النفس الشعبي لهذه الخرافة ؟

وترجع رغبة اختصاصيي علم النفس الشعبي في أن يقصروا كل واحدة من القدرات العقلية على مركز معين إما بالنصف الأيسر أو الأيمن بالمخ إلى أمور السياسة والقيم الاجتماعية والمصالح التجارية أكثر مما ترجع إلى العلم.

 أطلق من ينتقدون هذا الرأي المتطرف على هذا اسم "هوس التقسيم" حيث يميل اختصاصيو علم النفس الشعبي إلى تقسيم الوظائف على نصفي المخ (كورباليس، ١٩٩٩ ). وقد رحب أنصار حركة العصر الجديد الروحية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي
بهذا المبدأ ترحيبًا حماسيٍّا لأنه يقدم أساسًا منطقيٍّا للمنظورين الغامض والحدسي للعالم.
أضفى اختصاصيو علم النفس الشعبي المزيد من التنميق على أوجه الاختلاف بين نصفي المخ من حيث طريقة معالجة كل منهما للمعلومات، واصفين النصف الأيسر، الذي ادعوا أنه يتميز بالعقلانية والفتور العاطفي، بأنه "منطقي" و "خطي" و "تحليلي" و "ذكوري" وفي المقابل وصفوا النصف الأيمن، الذي زعموا أنه دافئ و غامض بأنه "شمولي" و "حدسي" و "فني" و "عفوي" و "أنثوي" و "إبداعي"  (باسيل، ١٩٨٨ ؛ زيمر، ٢٠٠٩ ). 

ادعى أنصار مبدأ التقسيم أن المجتمع الحديث يقلل من شأن طريقة تعامل النصف الأيمن من المخ مع العالم، وهي الطريقة التي تتسم بأنها شعورية إلى حد بعيد. واستنادًا إلى ذلك بدءوا يروجون لطرق خيالية من شأنها تحفيز نشاط ذلك النصف، فتعهدوا لنا في الكتب والحلقات النقاشية بتحريرنا من العوائق التي تمنعنا من أن ننمي شخصياتنا التي يفرضها علينا نظام دراسي غير مرن يتحيز إلى "طرق التفكير المعتمدة على نصف المخ الأيسر"  .
غير أن مجموعة من الخبراء شكلتها الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم توصلت إلى أنه لا يوجد أي دليل مباشر على أن الاستفادة من أوجه الاختلاف ما بين نصفي المخ يمكن أن تكتسب بالمران  (دراكمان وسويتس، ١٩٨٨ ، ص ١١٠ ). و انتهت مجموعة الخبراء إلى أن التدريب السلوكي قد يعزز أنماط التعلم المختلفة أو طرق حل المشكلات، ولكن تلك التحسينات لا تأتي نتيجة اختلاف وظائف نصفي المخ. وإذا كانت التمرينات السلوكية التي طُورت من أجل زيادة كفاءة النصف الأيمن للمخ من شأنها أن تعود ببعض الفوائد القليلة على أصحابها، فلا يمكننا أن نقول إن هذا هو الحال مع "منظمات موجات المخ" غير الواقعية التي تتداول في الأسواق للأغراض السابقة نفسها (بايرستاين، ١٩٩٩ ،١٩٨٥ ).

 تقول المزاعم إن العديد من هذه الأدوات من شأنها أن تحقق التناغم والتزامن بين نشاط نصفي المخ. إحدى أكثر هذه الأدوات نجاحًا اخترعها موظف سابق بالعلاقات العامة لم يتلق أي تدريب رسمي في علم الأعصاب. ومثلها مثل الأدوات المشابهة، يفترض أن تقوم هذه الأداة بإحداث تزامن بين الموجات الصادرة عن المخ عبر نصفيه من خلال إشارات التغذية الاسترجاعية. وربما يكون السبب في حالة الرضا التي حققها المنتج لدى عشرات من العملاء هو تأثير العلاج الوهمي (راجع المقدمة). لكن حتى إذا نجحت هذه الأدوات في إيجاد تزامن بين الموجات الصادرة عن نصفي المخ الأيسر والأيمن، فليس هناك ما يحملنا على أن نصدق أنه إذا أصبح كل نصف من نصفي المخ يردد صدى الموجات الصادرة عن النصف الآخر فسوف يعود ذلك علينا بأي فائدة .
 . ففي الواقع، هذا هو تحديدًا الشيء الذي  « لن نريد » لأمخاخنا أن تفعله، إذا أردنا أن تعمل بطريقة مثلى، فالأداء النفسي الأمثل يتطلب غالبًا وجود اختلاف في نشاط نصفي الدماغ وليس وجود تزامن بينهما (بايرستاين، ١٩99) .

خلاصة القول و الإستنتاج 

والخلاصة هي أننا لا يجب أن ننخدع بادعاءات أنصار التقسيم الذين يخوضون الحلقات النقاشية من أجل بيع ما لديهم، ولا يجب أن نستجيب أيضًا لادعاءات المروجين للأدوات المريبة التي من شأنها أن تحقق التزامن بين نصفي المخ والتي تُمنينا بأشياء خيالية يصعب تصديقها. فالأبحاث الحالية التي تتناول الاختلافات بين نصفي المخ، حتى تلك التي يجريها المعنيون باكتشاف تخصص كل من نصفي المخ، تركز على إظهار كيف يعمل المخ السوي بصورة متكاملة (كورباليس، ٢٠٠٧ ,, جازانيجا، ١٩٩٨ ؛ ماكرون، ١٩٩٩) .
google-playkhamsatmostaqltradent